فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{ذلك} كلام مستأنف سيق لبيان أن ما ذُكر مستتبِعٌ للمنافع واردٌ على مقتضى الحِكمة والمصلحة، أي الحُكم الذي تقدم تفصيلُه {أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَا} أي أقربُ أن يؤدِّيَ الشهودُ الشهادةَ عن وجهها الذي تحمَّلوها عليه من غير تحريفٍ ولا خيانة خوفًا من العذاب الأخروي، وهذه كما ترى حكمةُ شَرْعيةِ التحليفِ بالتغليظ المذكور، وقوله تعالى: {أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أيمان بَعْدَ أيمانهم} بيانٌ لحِكمة شرعيةِ ردِّ اليمين على الورثة، معطوفٌ على مقدَّرٍ يْنبىء عنه المقامُ كأنه قيل: ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ويخافوا عذابَ الآخرة بسبب اليمين الكاذبة أو يخافوا الافتضاحِ على رؤوس الأشهاد بإبطال أيمانهم والعملِ بأَيْمان الورثة فينزجروا عن الخيانة المؤدية إليه، فأيُّ الخوفين وقع حصل المقصِدُ الذي هو الإتيانُ بالشهادة على وجهها. وقيل: هو عطفٌ على {يأتوا} على معنى أن ذلك أقربُ إلى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو إلى أن يخافوا الافتضاحَ برد اليمين على الورثة فلا يحلِفوا على موجَب شهادتِهم إنْ لم يأتوا بها على وجهها، فيظهرُ كذبُهم بنكولهم، وأما ما قيل من أن المعنى أن ذلك أقربُ إلى أحد الأمرين اللذين أيُّهما وقع كان فيه الصلاحُ، وهو أداءُ الشهادة على الصدق، والامتناعُ عن أدائها على الكذب، فيأباه المقام، إذ لا تعلّق له بالحادثة أصلًا ضرورةَ أن الشاهدَ مضطرٌّ فيها إلى الجواب، فالامتناعُ عن الشهادة الكاذبة مستلزمٌ للإتيان بالصادقة قطعًا، فليس هناك أمران أيُّهما وقع كان فيه الصلاحُ حتى يَتوسَّطَ بينهما كلمةُ «أو» وإنما يتأتى ذلك في شهودٍ لم يُتَّهموا بخيانة، على أن إضافةَ الامتناع عن الشهادة الكاذبة إلى خوف رد اليمين على الورثة ونِسبةَ الإتيانِ بالصادقة إلى غيره مع أن ما يقتضي أحدُهما يقتضي الآخَرُ لا محالة تحكُّمٌ بحْتٌ فتأمل {واتقوا الله} في مخالفة أحكامه التي من جملتها هذا الحكمُ {واسمعوا} ما تؤمرون به كائنًا ما كان سمعَ طاعةٍ وقَبول {والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين} الخارجين عن الطاعة، أي فإن لم تتقوا ولم تسمعوا كنتم فاسقين {والله لا يهدي القوم الفاسقين} أي إلى طريق الجنة أو إلى ما فيه نفعُهم. اهـ.

.قال الألوسي:

{ذلك} كلام مستأنف سيق لبيان أن ما ذكر مستتبع للمنافع وارد على مقتضى الحكمة والإشارة إلى الحكم السابق تفصيله.
وقيل: إلى تحليف الشاهدين، وقيل: إلى الحبس بعد الصلاة {أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَا} أي أقرب إلى أن يؤدي الشهود الشهادة على حقيقتها من غير تغيير لها خوفًا من العذاب الأخروي، وهذه حكمة التحليف الذي تقدم أولًا، والجار الأول متعلق بيأتوا والثاني محذوف وقع حالًا من الشهادة، وقوله تعالى: {أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أيمان} أي إلى الورثة فيحلفوا {بَعْدَ إيمانهم} التي حلفوها عطف على مقدر ينبىء عنه المقام كأنه قيل: ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة محققة ويخافوا عذاب الآخرة بسبب اليمين الكاذبة المحرمة في سائر الأديان أو يخافوا أن ترد الأيمان إلى الورثة فيحلفوا ويأخذوا ما في أيديهم فيخجلوا من ذلك على رؤس الأشهاد فينزجروا عن الخيانة، وهو بيان لحكمة شرعية قيام الآخرين فأي هذين الخوفين وقع حصل المقصد الذي هو الإتيان بالشهادة على وجهها، وقيل: إنه عطف على {يَأْتُواْ} أي ذلك الحكم الذي ذكرناه أقرب أن يأتوا بالشهادة على وجهها مما كنتم تفعلونه وأقرب إلى خوف الفضيحة، وجعل الشهاب هذا العطف على حد قوله:
علفتها تبنًا وماء باردًا

وجوز السمين كون أو بمعنى الواو كما جوز جعلها لأحد الشيئين على ما هو الأصل فيها فتدبر وجمع ضمير {يَأْتُواْ} و{يخافوا} على ما قيل لأن المراد ما يعم الشاهدين المذكورين وغيرهما من بقية الناس، والظرف بعد متعلق بترد كما هو الظاهر.
وجوز السمين وهو ضعيف أن يكون متعلقًا بمحذوف وقع صفة لأيمان.
{واتقوا الله} في مخالفة أحكامه التي من جملتها ما ذكر.
والجملة على ما قيل عطف على مقدر أي احفظوا أحكام الله سبحانه واتقوا {واسمعوا} سمع إجابة وقبول جميع ما تؤمرون به {والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين} تذييل لما تقدم، والمراد فإن لم تتقوا وتسمعوا كنتم فاسقين خارجين عن الطاعة والله تعالى لا يهدي القوم الخارجين عن طاعته إلى ما ينفعهم أو إلى طريق الجنة. اهـ.

.قال الشوكاني:

قوله: {ذلك أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَا} أي ذلك البيان الذي قدمه الله سبحانه، في هذه القصة وعرفنا كيف يصنع من أراد الوصية في السفر؟ ولم يكن عنده أحد من أهله، وعشيرته، وعنده كفار، أدنى أي أقرب إلى أن يؤدي الشهود المتحملون للشهادة على الوصية بالشهادة على وجهها، فلا يحرّفوا ولا يبدّلوا، ولا يخونوا وهذا كلام مبتدأ يتضمن ذكر المنفعة والفائدة، في هذا الحكم الذي شرعه الله في هذا الموضع من كتابه؛ فالضمير في {يَأْتُواْ} عائد إلى شهود الوصية من الكفار.
وقيل: إنه راجع إلى المسلمين المخاطبين بهذا الحكم.
والمراد تحذيرهم من الخيانة، وأمرهم بأن يشهدوا بالحق.
قوله: {أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أيمان بَعْدَ أيمانهم} أي تردّ على الورثة فيحلفون على خلاف ما شهد به شهود الوصية فيفتضح حينئذ شهود الوصية، وهو معطوف على قوله: {أَن يَأْتُواْ} فتكون الفائدة في شرع الله سبحانه لهذا الحكم هي أحد الأمرين: إما احتراز شهود الوصية عن الكذب والخيانة فيأتون بالشهادة على وجهها، أو يخافوا الافتضاح إذا ردّت الأيمان على قرابة الميت فحلفوا بما يتضمن كذبهم أو خيانتهم فيكون ذلك سببًا لتأدية شهادة شهود الوصية على وجهها من غير كذب ولا خيانة.
وقيل: إن {يخافوا} معطوف على مقدّر بعد الجملة الأولى، والتقدير: ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها، ويخافوا عذاب الآخرة بسبب الكذب والخيانة، أو يخافوا الافتضاح بردّ اليمين، فأيّ الخوفين وقع حصل المقصود {واتقوا الله} في مخالفة أحكامه {والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين} الخارجين عن طاعته بأيّ ذنب، ومنه الكذب في اليمين أو الشهادة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والمشار إليه في قوله: {ذلك أدنى} إلى المذكور من الحكم من قوله: {تحبسوهما من بعد الصلاة} إلى قوله إنَّا إذن لمنَ الظالمين.
و{أدنى} بمعنى أقرب، والقرب هنا مجاز في قرب العلم وهو الظنّ، أي أقوى إلى الظنّ بالصدق.
وضمير {يأتوا} عائد إلى {الشهداء} وهم: الآخران من غيركم، والآخران اللذان يقومان مقامهما، أي أن يأتي كلّ واحد منهم.
فجمع الضمير على إرادة التوزيع.
والمعنى أنّ ما شرع الله من التوثيق والضبط، ومن ردّ الشهادة عند العثور على الريبة أرجى إلى الظنّ بحصول الصدق لكثرة ما ضبط على كلا الفريقين ممّا ينفي الغفلة والتساهل، بله الزور والجور مع توقّي سوء السمعة.
ومعنى {أن يأتوا بالشهادة}: أن يؤدّوا الشهادة.
جعل أداؤها والإخبار بها كالإتيان بشيء من مكان.
ومعنى قوله: {على وجهها}، أي على سنّتها وما هو مقوّم تمامها وكمالها، فاسم الوجه في مثل هذا مستعار لأحسن ما في الشيء وأكمله تشبيهًا بوجه الإنسان، إذ هو العضو الذي يعرف به المرء ويتميز عن غيره.
ولمّا أريد منه معنى الاستعمارة لهذا المعنى، وشاع هذا المعنى في كلامهم، قالوا: جاء بالشيء الفلاني على وجهه، فجعلوا الشيء مأتيًّا به، ووصفوه بأنه أتي به متمكّنًا من وجهه، أي من كمال أحواله.
فحرف «على» للاستعلاء المجازي المراد منه التمكّن، مثل {أولئك على هدى من ربّهم} [البقرة: 5].
والجارّ والمجرور في موضع الحال من {الشهادة}، وصار ذلك قرينة على أنّ المراد من الوجه غير معناه الحقيقي.
وسنّة الشهادة وكمالها هو صدقها والتثبّت فيها والتنبّه لما يغفل عنه من مختلف الأحوال التي قد يستخفّ بها في الحال وتكون للغفلة عنها عواقب تضيِّع الحقوق، أي ذلك يعلّمهم وجه التثبّت في التحمّل والأداء وتوخّي الصدق، وهو يدخل في قاعدة لزوم صفة اليقظة للشاهد.
وفي الآية إيماء إلى حكمة مشروعية الإعذاء في الشهادة بالطعن أو المعارضة، فإنّ في ذلك ما يحمل شهود الشهادة على التثبّت في مطابقة شهادتهم، للواقع لأنّ المعارضة والإعذار يكشفان عن الحقّ.
وقوله: {أو يخافوا أن تردّ أيمان بعد أيمانهم} عطف على قوله: {أن يأتوا} باعتبار ما تعلّق به من المجرورات، وذلك لأنّ جملة {يأتوا بالشهادة على وجهها} أفادت الإتيان بها صادقة لا نقصان فيها بباعث من أنفس الشهود، ولذلك قدّرناه بمعنى أن يعلموا كيف تكون الشهادة الصادقة.
فأفادت الجملة المعطوف عليها إيجاد وازع للشهود من أنفسهم، وأفادت الجملة المعطوفة وازعًا هو توقّع ظهور كذبهم.
ومعنى {أن تردّ أيمان} أن تُرَجَّع أيمان إلى ورثة الموصي بعد أيمان الشهيدين.
فالردّ هنا مجاز في الانتقال، مثل قولهم: قلب عليه اليمين، فيعيَّروا به بين الناس؛ فحرف «أو» للتقسيم، وهو تقسيم يفيد تفصيل ما أجمله الإشارة في قوله: {ذلك أدنى} إلخ.
وجمع {الأيمان} باعتبار عموم حكم الآية لسائر قضايا الوصايا التي من جنسها، على أنّ العرب تعدل عن التثنية كثيرًا.
ومنه قوله تعالى: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} [التحريم: 4].
وذيّل هذا الحكم الجليل بموعظة جميع الأمّة فقال: {واتّقوا الله} الآية.
وقوله: {واسمعوا} أمر بالسمع المستعمل في الطاعة مجازًا، كما تقدّم في قوله تعالى: {إذ قلتم سمعنا وأطعنا} في هذه السورة.
وقوله: {والله لا يهدي القوم الفاسقين} تحريض على التقوى والطاعة لله فيما أمر ونهى، وتحذير من مخالفة ذلك، لأنّ في اتّباع أمر الله هُدى وفي الإعراض فسقًا.
{والله لا يهدي القوم الفاسقين} أي المعرضين عن أمر الله، فإنّ ذلك لا يستهان به لأنّه يؤدّي إلى الرين على القلب فلا ينفذ إليه الهدى من بعدُ فلا تكونُوهم وكونوا من المهتدين.
هذا تفسير الآيات توخّيتُ فيه أوضح المعاني وأوفقها بالشريعة، وأطلت في بيان ذلك لإزالة ما غمض من المعاني تحت إيجازها البليغ.
وقد نقل الطيبي عن الزجّاج أنّ هذه الآية من أشكل ما في القرآن من الإعراب.
وقال الفخر: رَوَى الواحدي عن عمر: هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام.
وقال ابن عطية عن مكّي بن أبي طالب: هذه الآيات عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعرابًا ومعنى وحكمًا.
قال ابن عطية: وهذا كلام من لم يقع له الثلج في تفسيرها.
وذلك بيّن من كتابه.
ولقصد استيفاء معاني الآيات متتابعة تجنّبت التعرّض لما تفيده من الأحكام واختلاف علماء الإسلام فيها في أثناء تفسيرها.
وأخّرت ذلك إلى هذا الموضع حين انتهيت من تفسير معانيها.
وقد اشتملت على أصلين: أحدهما الأمر بالإشهاد على الوصية، وثانيهما فصل القضاء في قضية تميم الداري وعدي بن بدّاء مع أولياء بديل بن أبي مريم.
فالأصل الأول: من قوله تعالى: {شهادة بينكم} إلى قوله: {ولا نكتم شهادة الله}.
والأصل الثاني: من قوله: {فإن عثر على أنّهما استحقّا إثمًا} إلى قوله: {بعد أيمانهم}.
ويحصل من ذلك معرفة وجه القضاء في أمثال تلك القضية ممّا يتّهم فيه الشهود.